‘ديبسيك’ مقابل ‘شات جي بي تي’: نجاح تقني كبير أم تحديات كبرى؟

شهدت الساحة التقنية العالمية تطوراً لافتاً مع إطلاق نموذج الذكاء الاصطناعي R1 من شركة “ديبسيك” الصينية، الذي قلب موازين المنافسة في سوق الذكاء الاصطناعي بقدرته على تحدي عمالقة التكنولوجيا مثل “أوبن إيه آي” و”غوغل” و”ميتا”. بميزانية متواضعة مقارنة بالنماذج الغربية، نجح “ديبسيك” في تقديم أداء مذهل على المستوى التقني، ما أحدث تأثيراً اقتصادياً كبيراً وأثار تساؤلات حول تعاطيه مع القضايا الثقافية والسياسية، خاصة في العالم العربي.
تفوق تقني بأقل التكاليف
تم تطوير “ديبسيك” بواسطة شركة ناشئة في مدينة هانغتشو الصينية، التي تُعد مركزاً رئيسياً لشركات التكنولوجيا. وفقاً لتقارير حديثة، أنفقت الشركة فقط 5.6 ملايين دولار لتطوير نموذجها الأخير، وهو مبلغ متواضع مقارنةً بالمليارات التي أنفقتها شركات التكنولوجيا الأميركية. يعتمد النموذج على بيانات ضخمة لتطوير نموذج لغة كبير (LLM) قادر على أداء مهام معقدة مثل كتابة الأكواد البرمجية، حل المسائل الرياضية، وحتى إنشاء الوصفات بناءً على المكونات المتوفرة.
وحول تأثير التكلفة المنخفضة لنموذج “ديبسيك”، أكد كريستوف الزغبي، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة ZAKA، في حديثه مع “النهار” أن اعتماده على نموذج مفتوح المصدر يمنح الشركات الناشئة فرصة غير مسبوقة لدخول مجال الذكاء الاصطناعي دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة. هذا التحول قد يعيد تشكيل موازين القوى بين الشركات الناشئة والعمالقة التقنيين، حيث يمكن للمطورين الاستفادة من النموذج وتخصيصه لمختلف التطبيقات، مما يعزز التنافسية والابتكار في السوق.
الأمر الأكثر إثارة للإعجاب هو الأداء الفائق لديبسيك رغم اعتماده على عدد محدود من الشرائح الإلكترونية مقارنةً بنظرائه الغربيين. ومع ذلك، فإن التكلفة المنخفضة والقدرة التنافسية العالية للنموذج تسببت في اضطراب الأسواق العالمية، حيث فقدت شركات مثل “إنفيديا” حوالي 600 مليار دولار من قيمتها السوقية في يوم واحد فقط.
“ديبسيك” في مواجهة القضايا الثقافية والسياسية
على الرغم من تفوق “ديبسيك” في العديد من المجالات التقنية، إلا أن تعامله مع القضايا الثقافية والسياسية يثير الجدل. النموذج يتجنب الإجابة عن أسئلة حساسة مثل وضع تايوان أو أحداث ميدان تيانانمن، ما يعكس الرقابة الصارمة التي تخضع لها النماذج الصينية.
في العالم العربي، يعاني “ديبسيك” من قصور في التعامل مع اللهجات المتعددة والقيم الثقافية المتنوعة. فالنموذج، رغم دعمه للغات متعددة، يظل الأقوى في اللغتين الإنكليزية والصينية، ما يجعله أقل جاذبية للمستخدمين العرب الذين يبحثون عن تجربة تفاعلية تتفهم تعقيدات لهجاتهم وثقافتهم.
الشفافية مقابل الخصوصية
أحد الجوانب المميزة لديبسيك هو اعتماده على التطوير المفتوح المصدر، حيث يمكن لأي شخص الوصول إلى الكود الخاص بالنموذج وتعديله. هذا النهج يعيد إحياء الفكرة الأصلية لـ “أوبن إيه آي”، التي أصبحت الآن تعتمد على نماذج مغلقة المصدر. لكن في المقابل، يُثير جمع البيانات من قبل الشركة الصينية مخاوف كبيرة، حيث تُشير التقارير إلى إمكانية تخزين بيانات المستخدمين على خوادم داخل الصين، ما يُعيد الجدل حول قضايا الخصوصية.
وفي هذا السياق، أوضح الزغبي أن التحديات الجوهرية التي تواجه النماذج المفتوحة المصدر تتعلق بالمخاطر الأمنية وإمكانية استغلالها في التزييف العميق أو تطوير برمجيات ضارة، ما يثير مخاوف بشأن استخدامها في أنشطة غير قانونية أو مسيئة. بالإضافة إلى ذلك، تبرز قضايا الخصوصية كأحد العوامل المثيرة للقلق، إذ تفتقر النماذج المفتوحة المصدر إلى ضوابط واضحة لحماية البيانات، ما قد يؤدي إلى مخاطر متزايدة تتعلق بانتهاك خصوصية المستخدمين أو تسريب المعلومات الحساسة.
أما التحدي الآخر فيتمثل في التحكم في الاستخدام، حيث يصبح من الصعب مراقبة كيفية توظيف هذه النماذج بعد إتاحتها للعامة، ما قد يفتح الباب أمام استخدامات غير أخلاقية أو غير قانونية.
التأثير الاقتصادي والسباق العالمي
نجاح “ديبسيك” يعتبر جزءاً من استراتيجية الصين لتصبح الرائدة عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030. تعهدت الحكومة الصينية بضخ مليارات الدولارات لدعم هذا القطاع، ويبدو أن “ديبسيك” يمثل خطوة مهمة في تحقيق هذا الهدف. وصف البعض هذا الإنجاز بـ”لحظة سبوتنيك للذكاء الاصطناعي”، إشارة إلى اللحظة التي بدأت فيها الولايات المتحدة تدرك التحدي السوفييتي في سباق الفضاء.
ديبسيك مقابل “شات جي بي تي”: مقارنة شاملة
1. الأداء والتكلفة: يتفوق “ديبسيك” بفضل تكلفته المنخفضة، حيث يقدم أداءً مشابهًا أو يفوق النماذج الغربية في بعض المجالات.
2. اللغات والثقافات: يتميز “شات جي بي تي” بدعمه الأوسع للغات ولهجات متعددة، ما يجعله أكثر توافقًا مع احتياجات المستخدمين العرب.
3. الشفافية والرقابة: بينما يعتمد “ديبسيك” على مصدر مفتوح، إلا أن الرقابة الصارمة تحد من مصداقيته، على عكس “شات جي بي تي” الذي يتمتع بمرونة أكبر في معالجة القضايا الحساسة.
4. الميزات المتقدمة: يتفوق “شات جي بي تي” في تقديم ميزات مثل وضع الصوت، إنشاء الصور، والتحرير الفوري للردود.
هل يشكل الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر مستقبل التقنية؟
ورغم التحديات، يرى الزغبي أن مستقبل الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر يحمل فرصاً واعدة، بشرط وضع أطر تنظيمية صارمة تضمن الاستخدام المسؤول، وتحدّ من مخاطر الاختراق وسوء الاستغلال. كما شدد على ضرورة التعاون بين الحكومات والمؤسسات التقنية لخلق بيئة آمنة تعزز التوازن بين الابتكار والشفافية دون الإضرار بالجوانب الأمنية والأخلاقية.
يمثل “ديبسيك” خطوة جريئة ومؤثرة في عالم الذكاء الاصطناعي، حيث تحاول الصين أن تثبت أن الابتكار، وخصوصاً في تقنيات الذكاء الاصطناعي، ليس حكراً على الغرب. ومع ذلك، تبقى القضايا المتعلقة بالخصوصية، والرقابة، وضعف التفاعل مع الثقافات غير الصينية، ولا سيما العربية، تحديات كبرى. ولتحقيق قبول عالمي، يحتاج “ديبسيك” إلى التوسع في دعم اللغات والثقافات المتنوعة، وتقديم ضمانات أقوى لحماية خصوصية المستخدمين.
Source link